فصل: تفسير الآيات (1- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.سورة الأعلى:

مكية وهي تسع عشرة آية.

.تفسير الآيات (1- 19):

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}
{سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} نزه ذاته عما لا يليق به، والاسم صلة وذلك بأن يفسر الأعلى بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار لا بمعنى العلو في المكان. وقيل: قل سبحان ربي الأعلى. وفي الحديث لما نزلت قال عليه السلام: «اجعلوها في سجودكم» {الذى خَلَقَ فسوى} أي خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية ولم يأت به متفاوتاً غير ملتئم ولكن على إحكام واتساق، دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم، أو سوَّاه على ما فيه منفعة ومصلحة {والذى قَدَّرَ فهدى} أي قدر لكل حيوان ما يصلحه فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به، أو فهدى وأضل ولكن حذف وأضل اكتفاء كقوله: {يُضِلُّ مَن يَشَآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء} [النحل: 93] [فاطر: 8]. {قُدِرَ} عليّ {والذى أَخْرَجَ المرعى} أنبت ما ترعاه الدواب {فَجَعَلَهُ غُثَاءً} يابساً هشيماً {أحوى} أسود {فأحوى} صفة الغثاء {أحوى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} سنعلمك القرآن حتى تنساه {إِلاَّ مَا شَاء الله} أن ينسخه وهذا بشارة من الله لنبيه أن يحفظ عليه الوحي حتى لا ينفلت منه شيء إلا ما شاء الله أن ينسخه فيذهب به عن حفظه برفع حكمه وتلاوته. وسأل ابن كيسان النحوي جنيداً عنه فقال: فلا ننسى العمل به فقال: مثلك يصدر. وقيل: قوله {فَلاَ تنسى} على النهي والألف مزيدة للفاصلة كقوله: {السبيلا} [الأحزاب: 67] أي فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى} أي إنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل مخافة التفلت والله يعلم جهرك معه وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر، أو ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان، أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم وما ظهر وما بطن من أحوالكم.
{وَنُيَسِّرُكَ لليسرى} معطوف على {سَنُقْرِئُكَ} وقوله {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى} اعتراض ومعناه ونوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل يعني حفظ الوحي. وقيل: للشريعة السمحة التي هي أيسر الشرائع أو نوفقك لعمل الجنة {فَذَكِّرْ} عظ بالقرآن {إِن نَّفَعَتِ الذكرى} جواب (إن) مدلول قوله {فَذَكِّرْ} قيل: ظاهره شرط ومعناه استبعاد لتأثير الذكرى فيهم. وقيل: هو أمر بالتذكير على الإطلاق كقوله: {فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ} [الغاشية: 21]. غير مشروط بالنفع {سَيَذَّكَّرُ} سيتعظ ويقبل التذكرة {مَن يخشى} الله وسوء العاقبة {وَيَتَجَنَّبُهَا} ويتباعد عن الذكرى فلا يقبلها {الأشقى} الكافر أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة {الذى يَصْلَى النار الكبرى} يدخل نار جهنم والصغرى نار الدنيا {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح من العذاب {وَلاَ يحيى} حياة يتلذذ بها. وقيل: (ثم) لأن الترجح بين الحياة والموت أفظع من الصلي فهو متراخٍ عنه في مراتب الشدة.
{قَدْ أَفْلَحَ} نال الفوز {مَن تزكى} تطهر من الشرك أو تطهر للصلاة أو أدى الزكاة تفعل من الزكاة كتصدق من الصدقة {وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ} وكبر للافتتاح {فصلى} الخمس وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة، لأن الصلاة عطفت عليها وهو يقتضي المغايرة، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه وصلى له. وعن الضحاك: وذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى صلاة العيد {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا} على الآخرة فلا تفعلون ما به تفلحون. والمخاطب به الكافرون دليله قراءة أبي عمرو {يؤثرون} بالياء {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} أفضل من نفسها وأدوم {إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى} هذا إشارة إلى قوله {قَدْ أَفْلَحَ} إلى {أبقى} أي أن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف أو إلى ما في السورة كلها، وهو دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة لأنه جعله مذكوراً في تلك الصحف مع أنه لم يكن فيها بهذا النظم وبهذه اللغة {صُحُفِ إبراهيم وموسى} بدل من {الصحف الأولى} وفي الأثر وفي صحف إبراهيم: ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه.

.سورة الغاشية:

مكية وهي ست وعشرون آية.

.تفسير الآيات (1- 26):

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)}
{هَلُ} بمعنى (قد) {أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها يعني القيامة. وقيل: النار من قوله: {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} [إبراهيم: 50] {وُجُوهٌ} أي وجوه الكفار، وإنما خص الوجه لأن الحزن والسرور إذا استحكما في المرء أثراً في وجهه {يَوْمَئِذٍ} يوم إذ غشيت {خاشعة} ذليلة لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} تعمل في النار عملاً تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل، وارتقاؤها دائبة في صعود من نار وهبوطها في حدور منها. وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء والتذت بها وتنعمت فهي في نصب منها في الآخرة. وقيل: هم أصحاب الصوامع ومعناه أنها خشعت الله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب والتهجد الواصب {تصلى نَاراً حَامِيَةً} تدخل ناراً قد أحميت مدداً طويلة فلا حر يعدل حرها {تصلى} أبو عمرو وأبو بكر {تسقى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ} من عين ماء قد انتهى حرها، والتأنيث في هذه الصفات والأفعال راجعة إلى الوجوه والمراد أصحابها بدليل قوله {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} وهو نبت يقال له الشِّبرِق فإذا يبس فهو ضريع وهو سم قاتل، والعذاب ألوان والمعذبون طبقات، فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع، فلا تناقض بين هذه الآية وبين قوله {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36] {لاَّ يُسْمِنُ} مجرور المحل لأنه وصف {ضَرِيعٍ} {وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ} أي منفعتا الغذاء منتفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة السمن في البدن.
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} ثم وصف وجوه المؤمنين ولم يقل ووجوه لأن الكلام الأول قد طال وانقطع {نَّاعِمَةٌ} متنعمة في لين العيش {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} رضيت بعملها وطاعتها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب {فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} من علو المكان أو المقدار {لاَ تَسْمَعُ} يا مخاطب أو الوجوه {فِيهَا لاغية} أي لغواً أو كلمة ذات لغو أو نفساً تلغو، لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم. {لاَ يَسْمَعُ فِيهَا لاغية}: مكي وأبو عمرو: {لاَّ تُسْمَعُ فِيهَا لاغية} نافع {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} أي عيون كثيرة كقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [الانفطار: 5] {فِيهَا سُرُرٌ} جمع سرير {مَّرْفُوعَةٍ} من رفعة المقدار أو السمك ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوله ربه من الملك والنعيم.
{وَأَكْوابٌ} جمع كوب وهو القدح. وقيل: آنية لا عروة لها {مَّوْضُوعَةٌ} بين أيديهم ليتلذذوا بها بالنظر إليها أو موضوعة على حافات العيون معدة للشرب {وَنَمَارِقُ} وسائد {مَصْفُوفَةٌ} بعضها إلى جنب بعض مساند ومطارح أينما أراد أن يجلس جلس على مسودة واستند إلى الأخرى {وَزَرَابِيُّ} وبسط عراض فاخرة جمع زربية {مَبْثُوثَةٌ} مبسوطة أو مفرقة في المجالس.
ولما أنزل الله تعالى هذه الآيات في صفة الجنة، وفسر النبي عليه السلام بأن ارتفاع السرير يكون مائة فرسخ، والأكواب الموضوعة لا تدخل في حساب الخلق لكثرتها، وطول النمارق كذا وعرض الزرابي كذا، أنكر الكفار وقالوا: كيف يصعد على هذا السرير، وكيف تكثر الأكواب هذه الكثرة، وتطول النمارق هذا الطول، وبسط الزرابي هذا الانبساط ولم نشاهد ذلك في الدنيا؟ فقال الله تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} طويلة ثم تبرك حتى تركب أو يحمل عليها ثم تقوم فكذا السرير يطأطئ للمؤمن كما يطأطئ الإبل {وَإِلَى السماء كَيْفَ رُفِعَتْ} رفعاً بعيد المدى بلا إمساك وعمد، ثم نجومها تكثر هذه الكثرة فلا تدخل في حساب الخلق فكذا الأكواب {وَإِلَى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ} نصباً ثابتاً فهي راسخة لا تميل مع طولها فكذا النمارق {وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ} سطحاً بتمهيد وتوطئة فهي كلها بساط واحد تنبسط من الأفق إلى الأفق فكذا الزرابي؛ ويجوز أن يكون المعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا إنذار الرسول ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه، وتخصيص هذه الأربعة باعتبار أن هذا خطاب للعرب وحث لهم على الاستدلال، والمرء إنما يستدل بما تكثر مشاهدته له، والعرب تكون في البوادي ونظرهم فيها إلى السماء والأرض والجبال والإبل فهي أعز أموالهم وهم لها أكثر استعمالاً منهم لسائر الحيوانات، ولأنها تجمع جميع المآرب المطلوبة من الحيوان وهي النسل والدر والحمل والركوب والأكل بخلاف غيرها، ولأن خلقها أعجب من غيرها فإنه سخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعاز ضعيفاً ولا تمانع صغيراً، وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار، وجعلها بحيث تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت وتجرها إلى البلاد الشاحطة، وصبرها على احتمال العطش حتى إن ظمأها لترتفع إلى العشر فصاعداً، وجعلها ترعى كل نابت في البراري مما لا يرعاه سائر البهائم.
{فَذَكِّرْ} فذكرهم بالأدلة ليتفكروا فيها {إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} ليس عليك إلا التبليغ {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} بمسلط كقوله {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]، {بمصيطر}: مدني وبصري وعلي وعاصم {إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ * فَيْعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر} الاستثناء منقطع أي لست بمسؤول عليهم ولكن من تولى منهم وكفر بالله فإن لله الولاية عليه والقهر فهو يعذبه العذاب الأكبر وهو عذاب جهنم. وقيل: هو استثناء من قوله {فَذَكِّرْ} أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} رجوعهم، وفائدة تقديم الظرف التشديد في الوعيد وإن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} فنحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها جزاء أمثالهم و(على) لتأكيد الوعيد لا للوجوب إذ لا يجب على الله شيء.

.سورة الفجر:

.تفسير الآيات (1- 14):

{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}
{والفجر} أقسم بالفجر وهو الصبح كقوله {والصبح إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 34]، أو بصلاة الفجر {وَلَيالٍ عَشْرٍ} عشر ذي الحجة أو العشر الأول من المحرم، أو الآخر من رمضان. وإنما نكرت لزيادة فضيلتها {والشفع والوتر} شفع كل الأشياء ووترها أو شفع هذه الليالي ووترها، أو شفع الصلاة ووترها، أو يوم النحر لأنه اليوم العاشر ويوم عرفة لأنه اليوم التاسع، أو الخلق والخالق. {والوتر} حمزة وعلي، وبفتح الواو غيرهما، وهما لغتان: فالفتح حجازي والكسر تميمي. وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم فقال: {واليل} وقيل: أريد به ليلة القدر {إِذَا يَسْرِ} إذا يمضي وياء {يَسْرِ} تحذف في الدرج اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة. وسأل واحد الأخفش عن سقوط الياء فقال: لا، حتى تخدمني سنة فسأله بعد سنة فقال: الليل لا يسري وإنما يسرى فيه، فلما عدل عن معناه عدل عن لفظه موافقة. وقيل: معنى يسري: يسرى فيه كما يقال: ليل نائم أي ينام فيه.
{هَلْ في ذَلِكَ} أي فيما أقسمت به من هذه الأشياء {قَسَمٌ} أي مقسم به {لِّذِى حِجْرٍ} عقل سمي به لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي كما سمي عقلاً ونهية لأنه يعقل وينهى، يريد هل تحقق عنده أن تعظم هذه الأشياء بالإقسام بها، أو هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر أي هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه؟ أو هل في القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لذي عقل ولب؟ والمقسم عليه محذوف وهو قوله (ليعذبن) يدل عليه قوله {أَلَمْ تَرَ} إلى قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}. ثم ذكر تعذيب الأمم التي كذبت الرسل فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذاتِ العماد} أي ألم تعلم يا محمد علماً يوازي العيان في الإيقان؟ وهو استفهام تقرير قيل: لعقب عاد ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عاد ما يقال لبني هاشم هاشم، ثم قيل للأولين منهم: عاد الأولى، والإرم تسمية لهم باسم جدهم ومن بعدهم عاد الأخيرة، ف {إِرَمَ} عطف بيان ل {عَادٍ} وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة. وقيل: إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها ويدل عليه قراءة ابن الزبير {بِعَادٍ * إِرَمَ} على الإضافة وتقديره بعاد أهل إرم كقوله {واسئل القرية} [يوسف: 82] ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضاً للتعريف والتأنيث وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة، فالمعنى أنهم كانوا بدويين أهل عمد أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة وإن كانت صفة للبلدة أنها ذات أساطين.
ورُوي أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال: أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثمة، وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال: هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل {التى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا في البلاد} أي مثل عاد في قوتهم وطول قامتهم، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، أو لم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا {وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر} قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتاً. قيل: أول من نحت الجبال والصخور ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة {بالواد} بوادي القرى {وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} أي ذي الجنود الكثيرة وكانت لهم مضارب كثيرة يضربونها إذا نزلوا. وقيل: كان له أوتاد يعذب الناس بها كما فعل بآسية {الذين} في محل النصب على الذم، أو الرفع على (هم الذين)، أو الجر على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون {طَغَوْاْ في البلاد} تجاوزوا الحد {فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد} بالكفر والقتل والظلم {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} مجاز عن إيقاع العذاب بهم على أبلغ الوجوه إذا الصب يشعر بالدوام والسوط بزيادة الإيلام أي عذبوا عذاباً مؤلماً دائماً {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} وهو المكان الذي يترقب فيه الرصد مفعال من رصده، وهذا مثل لإرصاده العباد وأنهم لا يفوتونه، وأنه عالم بما يصدر منهم وحافظه فيجازيهم عليه إن خيراً فخير وإن شراً فشر.